من قضايا الكتابة عند ابن خلدون/ السيرة النبوية مراسلات محمّد صلى الله عليه وسلم أنموذجا
Loading...
Date
2012-11-08
Authors
الساسي بن محمّد الضيفاوي
Journal Title
Journal ISSN
Volume Title
Publisher
Abstract
<p>تبدو كتابات العلاّمة والبحّاثة عبد الرحمان بن خلدون (732/808هـ، 1332/1406م) مهمّة جدّا، خاصّة كتابه: "ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر" لأنها تلقي الأضواء على أبرز القضايا والمشكلات الموصولة بحياة الإنسان المادّية والروحيّة والسياسية والاقتصادية والاجتماعية.<br />
وقد رتّب كتابه على مقدّمة وثلاثة كتب، المقدّمة في فضل علم التاريخ وتحقيق مذاهبه، والإلماع بمغالط المؤرخين، وهذا الجزء هو الذي أطلق عليه مقدّمة ابن خلدون، الكتاب الأوّل في العمران وذكر ما يعرض فيه من العوارض الذاتيّة من الملك والسلطان والكسب والمعاش والصنائع والعلوم، وما لذلك من العلل والأسباب، الكتاب الثاني ويشتمل أخبار العرب وأجيالهم ودولهم منذ مبدأ الخليقة إلى هذا العهد. أمّا الكتاب الثالث في أخبار البربر ومن إليهم من زناته، وذكر أوليتهم وأجيالهم وما كان لهم بديار المغرب خاصّة من الملك والدول.<br />
وبتتبّعنا لهذا التخطيط المحكم لفت انتباهنا إدراج ابن خلدون مراسلات النبي محمد عليه السلام وردودها إلى الملوك والأمراء والقادة العسكريين وشيوخ القبائل من نصارى ويهود وأقباط ومشركين وجاهليين وصابئة وغيرهم كثر داخل الجزيرة وخارجها، وقد تفاوتت الردود على هذه المراسلات بين القبول والرفض والاستسلام والتمرّد والعنف واللّطف، وقد أدرج الرجل هذه المراسلات ضمن الكتاب الثاني إيمانا منه أنّ التاريخ أو الخبر هو الإطّلاع على اختلاف الأمم والبقاع والإعصار في السير والأخلاق والعوائد والنحل والمذاهب وسائر الأطوار، باعتبار أنّ التاريخ هو إحالة على ما وقع للإنسان في الماضي أو ما دوّنه الإنسان عن ذلك الماضي، وما ثوى فيه من أحوال الأمم وأخلاق أهلها ومعاشهم وطرق كسبهم وأحوال الملوك وسياسية دولهم العسكريّة والماليّة والتفاوضيّة، وهذه المراسلات تجمع البعدين الاثنين معا، فهي تترجم ما وقع بين المسلمين وغيرهم من الأمم الأخرى من اتفاقات ومعاهدات ومشاحنات وسلم واحتقان، وهي كذلك إحالة على المدوّنين والإخباريين الذين دوّنوا هذه المراسلات من أمثال الواقدي والطبري ونحوهما.<br />
قد وعى ابن خلدون هذه المرحلة التاريخية وعيا منهجيا وابستيميا باعتباره مؤرخا وسوسيولوجيا وسياسيا وفقيها، ففهم أنّ هذه المراسلات النبوية كانت بعد أن استقرّت دولة الإسلام في المدينة، وبعد إجلاء اليهود منها، وانتصار النبي محمد عليه السلام على المشركين، واطمأنّ أتباعه إلى أنّ الصراع بينهم وبين الوثنيّة قد انتهى وحسم الأمر لصالح الإسلام والمسلمين، وخاصّة بعد فتح مكّة والطائف ودخول النّاس في الدين الجديد أفواجا. غير أنّ هناك دولتين كبيرتين مجاورتين للجزيرة العربية هما دولة الفرس ودولة الروم تهدّدان دولة الإسلام التي قامت في جزيرة العرب، تلك الجزيرة التي لم يعهد أن تكون فيها دولة، وكان الفرس والروم مطمئنين إلى أنّ تفرّق العرب إلى قبائل وانقسامهم على انفسهم يبقيهم دائما تحت سيطرتهم ونفوذهم، بيد أنّ الأمر تغيّر بمجرّد بزوغ ممهّدات نشأة دولة جديدة، فلا بدّ أن تفكّر الدولتان في القضاء على هذه الدولة ما دامت في طور نشأتها وقبل أن يشتدّ عودها، خاصّة أنّ الفرس يحتلّون أجزاء من جنوب الجزيرة والرومان يحتلّون أجزاء من شمالها وهو ما حدا بالنبيّ محمّد أن يرسل هذه الكتابات والمراسلات.<br />
أعتقد أنّ تنزيل هذه المراسلات ضمن المدونة الخلدونيّة يعكس أوّلا أنّ الرجل اهتمّ بالتاريخ والتأريخ، ثانيا بعلم العمران البشري وعلم الاجتماع ومن تجليات ذلك أنّ التاريخ البشري يعجّ بالصراعات والمشكلات والثورات والتوترات والتقلّبات، وهو ما عرفته تلك الحقبة في صدر الإسلام ومرحلة النبوّة، ثالثا أنّ هذه المراسلات ثوت جانبا مهمّا من المعاملات والأخلاق والسياسة ومراحل الدولة، رابعا أنّ هذه المراسلات جمعت بين الديني والمدني، وديوان المبتدأ والخبر لم يخل من هذه الثنائيات مثل الحضارة والبداوة والشظف والترف، والعصبية والمدنية، والحق والواجب، والنقلي والعقلي.<br />
وعلى ضوء هذه المعطيات والعناصر سنحلّل هذه المراسلات ونتتبّعها في منطقها الداخلي وسنستخلص من جماع هذه الإحالات عدّة أسئلة منها:<br />
لمن كتبت هذه المراسلات ؟ وكيف كتبت ؟ ولماذا كتبت ؟<br />
ولعمري أنّ هذه الأسئلة هي أسئلة التاريخ الموصولة بندوتنا : ابن خلدون : علاّمة الشرق والغرب، وبالتحديد بالمحور الثالث منها: ابن خلدون مؤرخا، وسنعمل في مبحثنا منهجيّا على الإجابة عن هذه الأسئلة تباعا.<br />
ختاما أعتقد أنّنا نمرّ بلحظة تاريخية حاسمة جدّا وأنّ شعوبنا تعيش منعرجا مهمّا، وفي تقديري أنّ تاريخنا العربي والإسلامي اعتنى عناية فائقة بتاريخ الدول وتاريخ الحكّام وأفعالهم ومآثرهم، واقتصر التاريخ بذلك على أحوال السلطة والعرش والحاشية مغفلا حياة الشعوب وأحوال الناس وثقافتهم ومشاغلهم، وقد حان الوقت لنتجاوز ذلك من أجل التعلّم لا التألّم. لذا وجب أن نبحث عن العلل والأسباب التي أضعفتنا وأوقفتنا زمنا طويلا عن النهوض، وجب أن نقف عن معرفة تاريخنا حتّى نتعلّم من كافّة جوانبه قراءة وتفسيرا وكتابة، لا أن نتألّم، وأن نسعى على أن نميّز بين التاريخ العبء والتاريخ الحافز.<br />
وإذا كان ابن خلدون تحدّث عن هذا وذاك وأثار العديد من القضايا وانغمر في حياة سياسية حافلة سواء في بلاط المرينيين بفاس أو الحفصيين في تونس، ولكن أليس من المدهش أن نراه في بداية القرن الخامس عشر أي بداية عصور الانحطاط والظلام في العالم العربي والإسلامي يضع مثل هذه المقاربات والتحاليل والبحوث العلمية للمباحثة والتدارس والاعتبار؟</p>
<p>تبدو كتابات العلاّمة والبحّاثة عبد الرحمان بن خلدون (732/808هـ، 1332/1406م) مهمّة جدّا، خاصّة كتابه: "ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر" لأنها تلقي الأضواء على أبرز القضايا والمشكلات الموصولة بحياة الإنسان المادّية والروحيّة والسياسية والاقتصادية والاجتماعية.<br /> وقد رتّب كتابه على مقدّمة وثلاثة كتب، المقدّمة في فضل علم التاريخ وتحقيق مذاهبه، والإلماع بمغالط المؤرخين، وهذا الجزء هو الذي أطلق عليه مقدّمة ابن خلدون، الكتاب الأوّل في العمران وذكر ما يعرض فيه من العوارض الذاتيّة من الملك والسلطان والكسب والمعاش والصنائع والعلوم، وما لذلك من العلل والأسباب، الكتاب الثاني ويشتمل أخبار العرب وأجيالهم ودولهم منذ مبدأ الخليقة إلى هذا العهد. أمّا الكتاب الثالث في أخبار البربر ومن إليهم من زناته، وذكر أوليتهم وأجيالهم وما كان لهم بديار المغرب خاصّة من الملك والدول.<br /> وبتتبّعنا لهذا التخطيط المحكم لفت انتباهنا إدراج ابن خلدون مراسلات النبي محمد عليه السلام وردودها إلى الملوك والأمراء والقادة العسكريين وشيوخ القبائل من نصارى ويهود وأقباط ومشركين وجاهليين وصابئة وغيرهم كثر داخل الجزيرة وخارجها، وقد تفاوتت الردود على هذه المراسلات بين القبول والرفض والاستسلام والتمرّد والعنف واللّطف، وقد أدرج الرجل هذه المراسلات ضمن الكتاب الثاني إيمانا منه أنّ التاريخ أو الخبر هو الإطّلاع على اختلاف الأمم والبقاع والإعصار في السير والأخلاق والعوائد والنحل والمذاهب وسائر الأطوار، باعتبار أنّ التاريخ هو إحالة على ما وقع للإنسان في الماضي أو ما دوّنه الإنسان عن ذلك الماضي، وما ثوى فيه من أحوال الأمم وأخلاق أهلها ومعاشهم وطرق كسبهم وأحوال الملوك وسياسية دولهم العسكريّة والماليّة والتفاوضيّة، وهذه المراسلات تجمع البعدين الاثنين معا، فهي تترجم ما وقع بين المسلمين وغيرهم من الأمم الأخرى من اتفاقات ومعاهدات ومشاحنات وسلم واحتقان، وهي كذلك إحالة على المدوّنين والإخباريين الذين دوّنوا هذه المراسلات من أمثال الواقدي والطبري ونحوهما.<br /> قد وعى ابن خلدون هذه المرحلة التاريخية وعيا منهجيا وابستيميا باعتباره مؤرخا وسوسيولوجيا وسياسيا وفقيها، ففهم أنّ هذه المراسلات النبوية كانت بعد أن استقرّت دولة الإسلام في المدينة، وبعد إجلاء اليهود منها، وانتصار النبي محمد عليه السلام على المشركين، واطمأنّ أتباعه إلى أنّ الصراع بينهم وبين الوثنيّة قد انتهى وحسم الأمر لصالح الإسلام والمسلمين، وخاصّة بعد فتح مكّة والطائف ودخول النّاس في الدين الجديد أفواجا. غير أنّ هناك دولتين كبيرتين مجاورتين للجزيرة العربية هما دولة الفرس ودولة الروم تهدّدان دولة الإسلام التي قامت في جزيرة العرب، تلك الجزيرة التي لم يعهد أن تكون فيها دولة، وكان الفرس والروم مطمئنين إلى أنّ تفرّق العرب إلى قبائل وانقسامهم على انفسهم يبقيهم دائما تحت سيطرتهم ونفوذهم، بيد أنّ الأمر تغيّر بمجرّد بزوغ ممهّدات نشأة دولة جديدة، فلا بدّ أن تفكّر الدولتان في القضاء على هذه الدولة ما دامت في طور نشأتها وقبل أن يشتدّ عودها، خاصّة أنّ الفرس يحتلّون أجزاء من جنوب الجزيرة والرومان يحتلّون أجزاء من شمالها وهو ما حدا بالنبيّ محمّد أن يرسل هذه الكتابات والمراسلات.<br /> أعتقد أنّ تنزيل هذه المراسلات ضمن المدونة الخلدونيّة يعكس أوّلا أنّ الرجل اهتمّ بالتاريخ والتأريخ، ثانيا بعلم العمران البشري وعلم الاجتماع ومن تجليات ذلك أنّ التاريخ البشري يعجّ بالصراعات والمشكلات والثورات والتوترات والتقلّبات، وهو ما عرفته تلك الحقبة في صدر الإسلام ومرحلة النبوّة، ثالثا أنّ هذه المراسلات ثوت جانبا مهمّا من المعاملات والأخلاق والسياسة ومراحل الدولة، رابعا أنّ هذه المراسلات جمعت بين الديني والمدني، وديوان المبتدأ والخبر لم يخل من هذه الثنائيات مثل الحضارة والبداوة والشظف والترف، والعصبية والمدنية، والحق والواجب، والنقلي والعقلي.<br /> وعلى ضوء هذه المعطيات والعناصر سنحلّل هذه المراسلات ونتتبّعها في منطقها الداخلي وسنستخلص من جماع هذه الإحالات عدّة أسئلة منها:<br /> لمن كتبت هذه المراسلات ؟ وكيف كتبت ؟ ولماذا كتبت ؟<br /> ولعمري أنّ هذه الأسئلة هي أسئلة التاريخ الموصولة بندوتنا : ابن خلدون : علاّمة الشرق والغرب، وبالتحديد بالمحور الثالث منها: ابن خلدون مؤرخا، وسنعمل في مبحثنا منهجيّا على الإجابة عن هذه الأسئلة تباعا.<br /> ختاما أعتقد أنّنا نمرّ بلحظة تاريخية حاسمة جدّا وأنّ شعوبنا تعيش منعرجا مهمّا، وفي تقديري أنّ تاريخنا العربي والإسلامي اعتنى عناية فائقة بتاريخ الدول وتاريخ الحكّام وأفعالهم ومآثرهم، واقتصر التاريخ بذلك على أحوال السلطة والعرش والحاشية مغفلا حياة الشعوب وأحوال الناس وثقافتهم ومشاغلهم، وقد حان الوقت لنتجاوز ذلك من أجل التعلّم لا التألّم. لذا وجب أن نبحث عن العلل والأسباب التي أضعفتنا وأوقفتنا زمنا طويلا عن النهوض، وجب أن نقف عن معرفة تاريخنا حتّى نتعلّم من كافّة جوانبه قراءة وتفسيرا وكتابة، لا أن نتألّم، وأن نسعى على أن نميّز بين التاريخ العبء والتاريخ الحافز.<br /> وإذا كان ابن خلدون تحدّث عن هذا وذاك وأثار العديد من القضايا وانغمر في حياة سياسية حافلة سواء في بلاط المرينيين بفاس أو الحفصيين في تونس، ولكن أليس من المدهش أن نراه في بداية القرن الخامس عشر أي بداية عصور الانحطاط والظلام في العالم العربي والإسلامي يضع مثل هذه المقاربات والتحاليل والبحوث العلمية للمباحثة والتدارس والاعتبار؟</p>
<p>تبدو كتابات العلاّمة والبحّاثة عبد الرحمان بن خلدون (732/808هـ، 1332/1406م) مهمّة جدّا، خاصّة كتابه: "ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر" لأنها تلقي الأضواء على أبرز القضايا والمشكلات الموصولة بحياة الإنسان المادّية والروحيّة والسياسية والاقتصادية والاجتماعية.<br /> وقد رتّب كتابه على مقدّمة وثلاثة كتب، المقدّمة في فضل علم التاريخ وتحقيق مذاهبه، والإلماع بمغالط المؤرخين، وهذا الجزء هو الذي أطلق عليه مقدّمة ابن خلدون، الكتاب الأوّل في العمران وذكر ما يعرض فيه من العوارض الذاتيّة من الملك والسلطان والكسب والمعاش والصنائع والعلوم، وما لذلك من العلل والأسباب، الكتاب الثاني ويشتمل أخبار العرب وأجيالهم ودولهم منذ مبدأ الخليقة إلى هذا العهد. أمّا الكتاب الثالث في أخبار البربر ومن إليهم من زناته، وذكر أوليتهم وأجيالهم وما كان لهم بديار المغرب خاصّة من الملك والدول.<br /> وبتتبّعنا لهذا التخطيط المحكم لفت انتباهنا إدراج ابن خلدون مراسلات النبي محمد عليه السلام وردودها إلى الملوك والأمراء والقادة العسكريين وشيوخ القبائل من نصارى ويهود وأقباط ومشركين وجاهليين وصابئة وغيرهم كثر داخل الجزيرة وخارجها، وقد تفاوتت الردود على هذه المراسلات بين القبول والرفض والاستسلام والتمرّد والعنف واللّطف، وقد أدرج الرجل هذه المراسلات ضمن الكتاب الثاني إيمانا منه أنّ التاريخ أو الخبر هو الإطّلاع على اختلاف الأمم والبقاع والإعصار في السير والأخلاق والعوائد والنحل والمذاهب وسائر الأطوار، باعتبار أنّ التاريخ هو إحالة على ما وقع للإنسان في الماضي أو ما دوّنه الإنسان عن ذلك الماضي، وما ثوى فيه من أحوال الأمم وأخلاق أهلها ومعاشهم وطرق كسبهم وأحوال الملوك وسياسية دولهم العسكريّة والماليّة والتفاوضيّة، وهذه المراسلات تجمع البعدين الاثنين معا، فهي تترجم ما وقع بين المسلمين وغيرهم من الأمم الأخرى من اتفاقات ومعاهدات ومشاحنات وسلم واحتقان، وهي كذلك إحالة على المدوّنين والإخباريين الذين دوّنوا هذه المراسلات من أمثال الواقدي والطبري ونحوهما.<br /> قد وعى ابن خلدون هذه المرحلة التاريخية وعيا منهجيا وابستيميا باعتباره مؤرخا وسوسيولوجيا وسياسيا وفقيها، ففهم أنّ هذه المراسلات النبوية كانت بعد أن استقرّت دولة الإسلام في المدينة، وبعد إجلاء اليهود منها، وانتصار النبي محمد عليه السلام على المشركين، واطمأنّ أتباعه إلى أنّ الصراع بينهم وبين الوثنيّة قد انتهى وحسم الأمر لصالح الإسلام والمسلمين، وخاصّة بعد فتح مكّة والطائف ودخول النّاس في الدين الجديد أفواجا. غير أنّ هناك دولتين كبيرتين مجاورتين للجزيرة العربية هما دولة الفرس ودولة الروم تهدّدان دولة الإسلام التي قامت في جزيرة العرب، تلك الجزيرة التي لم يعهد أن تكون فيها دولة، وكان الفرس والروم مطمئنين إلى أنّ تفرّق العرب إلى قبائل وانقسامهم على انفسهم يبقيهم دائما تحت سيطرتهم ونفوذهم، بيد أنّ الأمر تغيّر بمجرّد بزوغ ممهّدات نشأة دولة جديدة، فلا بدّ أن تفكّر الدولتان في القضاء على هذه الدولة ما دامت في طور نشأتها وقبل أن يشتدّ عودها، خاصّة أنّ الفرس يحتلّون أجزاء من جنوب الجزيرة والرومان يحتلّون أجزاء من شمالها وهو ما حدا بالنبيّ محمّد أن يرسل هذه الكتابات والمراسلات.<br /> أعتقد أنّ تنزيل هذه المراسلات ضمن المدونة الخلدونيّة يعكس أوّلا أنّ الرجل اهتمّ بالتاريخ والتأريخ، ثانيا بعلم العمران البشري وعلم الاجتماع ومن تجليات ذلك أنّ التاريخ البشري يعجّ بالصراعات والمشكلات والثورات والتوترات والتقلّبات، وهو ما عرفته تلك الحقبة في صدر الإسلام ومرحلة النبوّة، ثالثا أنّ هذه المراسلات ثوت جانبا مهمّا من المعاملات والأخلاق والسياسة ومراحل الدولة، رابعا أنّ هذه المراسلات جمعت بين الديني والمدني، وديوان المبتدأ والخبر لم يخل من هذه الثنائيات مثل الحضارة والبداوة والشظف والترف، والعصبية والمدنية، والحق والواجب، والنقلي والعقلي.<br /> وعلى ضوء هذه المعطيات والعناصر سنحلّل هذه المراسلات ونتتبّعها في منطقها الداخلي وسنستخلص من جماع هذه الإحالات عدّة أسئلة منها:<br /> لمن كتبت هذه المراسلات ؟ وكيف كتبت ؟ ولماذا كتبت ؟<br /> ولعمري أنّ هذه الأسئلة هي أسئلة التاريخ الموصولة بندوتنا : ابن خلدون : علاّمة الشرق والغرب، وبالتحديد بالمحور الثالث منها: ابن خلدون مؤرخا، وسنعمل في مبحثنا منهجيّا على الإجابة عن هذه الأسئلة تباعا.<br /> ختاما أعتقد أنّنا نمرّ بلحظة تاريخية حاسمة جدّا وأنّ شعوبنا تعيش منعرجا مهمّا، وفي تقديري أنّ تاريخنا العربي والإسلامي اعتنى عناية فائقة بتاريخ الدول وتاريخ الحكّام وأفعالهم ومآثرهم، واقتصر التاريخ بذلك على أحوال السلطة والعرش والحاشية مغفلا حياة الشعوب وأحوال الناس وثقافتهم ومشاغلهم، وقد حان الوقت لنتجاوز ذلك من أجل التعلّم لا التألّم. لذا وجب أن نبحث عن العلل والأسباب التي أضعفتنا وأوقفتنا زمنا طويلا عن النهوض، وجب أن نقف عن معرفة تاريخنا حتّى نتعلّم من كافّة جوانبه قراءة وتفسيرا وكتابة، لا أن نتألّم، وأن نسعى على أن نميّز بين التاريخ العبء والتاريخ الحافز.<br /> وإذا كان ابن خلدون تحدّث عن هذا وذاك وأثار العديد من القضايا وانغمر في حياة سياسية حافلة سواء في بلاط المرينيين بفاس أو الحفصيين في تونس، ولكن أليس من المدهش أن نراه في بداية القرن الخامس عشر أي بداية عصور الانحطاط والظلام في العالم العربي والإسلامي يضع مثل هذه المقاربات والتحاليل والبحوث العلمية للمباحثة والتدارس والاعتبار؟</p>